بريطانيا وابن سعود والشريف حسين قصة غيرت تاريخ جزيرة العرب
الشريف حسين بين الخديعة البريطانية وصعود عبدالعزيز بن سعود
مقدمة
كيف تحوّل رجلٌ
قاد ما عُرف بـ«الثورة العربية الكبرى» من حليفٍ للقوى العظمى إلى منفيٍّ مكسور؟
وكيف سقط
الحجاز، مهد الإسلام وقبلة المسلمين، من يد الشريف حسين بن علي، بينما صعد
عبدالعزيز بن سعود
بثبات ليؤسس
دولة ما زالت قائمة حتى اليوم؟
وهل كانت الوعود
البريطانية بالخلافة مشروعًا حقيقيًا… أم فخًا سياسيًا محكمًا؟
أسئلة كبرى لا
يمكن فهمها إلا بالعودة إلى واحدة من أكثر اللحظات التباسًا في التاريخ العربي
الحديث.
الشريف حسين: من رجل الدولة العثمانية إلى قائد الثورة
لم يكن الشريف
حسين بن علي، شريف مكة ونسل البيت الهاشمي، ثائرًا على الدولة العثمانية في
بداياته، بل كان جزءًا أصيلًا من منظومتها السياسية. فقد عُيّن شريفًا لمكة
المكرمة عام 1908 بقرار مباشر من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وظلّ لسنوات
يُمثّل السلطة العثمانية في أقدس بقاع الإسلام.
غير أنّ
التحولات التي شهدتها الدولة العثمانية بعد انقلاب جمعية الاتحاد والترقي،
وسياساتها المركزية القاسية، إضافة إلى تراجع مكانة العرب داخل الدولة، فتحت الباب
أمام تصاعد النزعة العربية، ودفعت الشريف حسين إلى البحث عن بديل يضمن له ولأسرته
موقع القيادة.
مراسلات حسين– مكماهون: الوعد الذي غيّر كل شيء
مع اندلاع الحرب
العالمية الأولى، وجدت بريطانيا نفسها في حاجة ماسّة إلى تفكيك الجبهة العثمانية
من الداخل. وهنا برز الشريف حسين بوصفه الورقة العربية الأهم.
بين عامي 1915
و1916، جرت مراسلات سرية بينه وبين السير هنري مكماهون، المندوب السامي البريطاني
في مصر، تضمنت:
إيحاءً
بالاعتراف باستقلال دولة عربية كبرى.
تلميحات
بإمكانية إعادة إحياء الخلافة الإسلامية بزعامة الشريف.
ضمانات بحماية
بريطانية مقابل إشعال ثورة عربية ضد العثمانيين.
لكن هذه
الرسائل، التي صيغت بعناية لغوية مقصودة، لم تكن التزامًا قانونيًا صريحًا، بل
وعودًا فضفاضة تخدم ظرف الحرب لا أكثر.
الحقيقة تظهر: سايكس– بيكو ووعد بلفور
ما إن بدأت
موازين الحرب تميل لصالح الحلفاء، حتى كُشف الستار عن المخطط الحقيقي:
اتفاقية
سايكس–بيكو (1916) قسمت المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا.
وعد بلفور
(1917) مهّد لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
تجاهل كامل
لطموحات الشريف حسين السياسية والدينية.
وهكذا، تبيّن أن
الثورة العربية، التي قاتل فيها العرب تحت راية الاستقلال، كانت في نظر لندن وسيلة
عسكرية مؤقتة لا أكثر.
إعلان الخلافة… والاصطدام بالواقع
بعد إلغاء
الخلافة العثمانية رسميًا عام 1924، أعلن الشريف حسين نفسه خليفة للمسلمين، في
محاولة أخيرة لاستعادة الشرعية الدينية والسياسية.
غير أنّ هذا
الإعلان:
لم يحظَ باعتراف
دولي.
قوبل برفض واسع
من القوى الإسلامية.
زاد من عزلته
السياسية في لحظة كان خصومه يزدادون قوة.
عبدالعزيز بن
سعود: صعود مدعوم بالحسابات البريطانية
في الجهة
المقابلة، كانت بريطانيا قد اختارت منذ وقت مبكر حليفًا آخر في الجزيرة العربية:
عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود.
دور حكومة الهند البريطانية في المفاضلة بين الشريف حسين وعبدالعزيز بن سعود
لم يكن القرار
البريطاني بتفضيل عبدالعزيز بن سعود على الشريف حسين قرارًا صادرًا من لندن وحدها،
بل لعبت حكومة الهند البريطانية دورًا محوريًا في رسم السياسة البريطانية في
الجزيرة العربية. فقد كانت الهند، بوصفها «دُرّة التاج البريطاني»، تنظر إلى
الجزيرة العربية من زاوية أمنية واستراتيجية بحتة، مرتبطة بحماية طرق الملاحة في
البحر الأحمر والخليج، وتأمين طريق الهند الإمبراطوري.
ومن هذا
المنطلق، رأت حكومة الهند أن الشريف حسين، بنزعته الهاشمية وطموحه الخلافي وخطابه
الديني العابر للحدود، يشكّل عنصر عدم استقرار قد يُحرّك مشاعر المسلمين في الهند
ضد الحكم البريطاني، خصوصًا في ظل تصاعد الحساسية الإسلامية بعد إلغاء الخلافة
العثمانية. في المقابل، بدا عبدالعزيز بن سعود، في نظرها، حاكمًا محليًا ذا مشروع
إقليمي محدود، يركّز على توحيد الجزيرة العربية دون ادعاءات خلافية أو طموحات
أممية، وقادرًا على فرض الأمن في الحجاز وتأمين طرق الحج، وهو ما كان أولوية قصوى
للإدارة البريطانية في الهند.
وبناءً على هذه
الحسابات، ضغطت حكومة الهند داخل دوائر القرار الإمبراطوري لتقليص الدعم الممنوح
للشريف حسين، وتهيئة المناخ السياسي لصعود ابن سعود، معتبرة أن الاستقرار الذي
يحققه الأخير يخدم المصالح البريطانية أكثر من الأحلام السياسية الواسعة التي
حملها شريف مكة.
1. معاهدة دارين (1915)
اعترفت بريطانيا
بنفوذ ابن سعود على نجد والأحساء، ومنحته حماية سياسية غير مباشرة، مقابل التزامه
بعدم تهديد المصالح البريطانية في الخليج.
2. الدعم
المالي والعسكري
إعانات مالية
منتظمة.
أسلحة وذخائر.
تسهيلات لوجستية
عبر الخليج.
3. الموقف
من الحجاز
عندما تحرّك ابن
سعود عسكريًا نحو الحجاز (1924–1925):
التزمت بريطانيا
الصمت.
منعت أي دعم
خارجي عن الشريف حسين.
تعاملت مع سقوط
مكة والمدينة بوصفه أمرًا واقعًا.
وهكذا، سقط
الحجاز دون تدخل دولي، وانتقلت أقدس بقاع المسلمين إلى حكم آل سعود.
السقوط والمنفى
تتابعت الهزائم
سريعًا:
فقد الشريف حسين
مملكته.
أُجبر على
مغادرة الحجاز.
نُفي إلى قبرص
بقرار بريطاني.
ثم استقر في
عمّان، حيث توفي عام 1931 بعيدًا عن مكة التي حكمها يومًا.
قراءة في الدرس
التاريخي
قصة الشريف حسين
ليست مجرد حكاية رجل خُدع، بل نموذج سياسي متكرر:
القوى
الاستعمارية لا تمنح وعودًا إلا بقدر ما يخدم مصالحها.
الشرعية الدينية
وحدها لا تكفي دون قوة واقعية.
من لا يمتلك
أدوات القوة، يُستبدل بغيره حين تنتهي مهمته.
خاتمة:
بين الشريف حسين
وعبدالعزيز بن سعود، لم يكن الفارق في النوايا، بل في حسابات القوة واللحظة
التاريخية.
خسر الأول
الحجاز والمنفى، وربح الثاني دولة اعترفت بها القوى الكبرى، ورسّخ أركانها بعناية
سياسية وعسكرية.
وهكذا، يعلّمنا
هذا الفصل من التاريخ العربي أن السياسة لا تُدار بالأحلام وحدها، ولا بالوعود
المكتوبة بالحبر، بل بموازين المصالح والقوة…
وأن من يراهن
على الخارج دون أوراق داخلية صلبة، غالبًا ما يدفع الثمن وحده.
%20(1).webp)
.webp)