بني شنقول l الإقليم الذهبي الذي اشتراه اسماعيل
من أراضٍ مصرية إلى قاعدة مشروع سدّ النهضة
مقدمة
تُعَدُّ قضية إقليم بني شنقول واحدة من أكثر الملفات التاريخية تعقيدًا في
منطقة القرن الإفريقي، لما تحمله من تداخلات سياسية واقتصادية وجغرافية،
ولارتباطها المباشر بأزمة سدّ النهضة الذي تم بناؤه على أراضٍ كان لها وضعٌ
قانونيٌّ مختلف تمامًا قبل أكثر من 150 عامًا. وتكشف القراءة التاريخية الدقيقة
أنّ هذا الإقليم لم يكن يومًا أرضًا إثيوبية أصيلة، بل كان جزءًا من المجال المصري
ـ السوداني إبّان الحكم العثماني – المصري، قبل أن تنتقل السيطرة عليه إلى إثيوبيا
في ظروف دولية حسّاسة.
فيما يلي سردٌ تاريخيٌ موثَّقٌ لأصل الإقليم، كيفية انتقاله، والاتفاقيات
الحاكمة له، وصولًا إلى مخالفات إثيوبيا في بناء سدّ النهضة.
أولًا: الجغرافيا والتكوين السكاني… لماذا كان الإقليم مهمًّا؟
يقع إقليم بني شنقول (Benishangul) غرب إثيوبيا،
على الحدود المباشرة مع السودان، ويتميّز بالتالي:
أنه غني بالذهب—وهو سبب تسميته (بني شنقول = أصحاب القبعات الذهبية).
أنه منطقة عبور طبيعية بين وادي النيل الأزرق والهضبة الإثيوبية.
أنه كان منطقة قبائل عربية وإفريقية تدين بالولاء الإداري للدولة المصرية
في السودان.
وقد عرف الإقليم تاريخيًا باسم “بني شنقول – قمز”، وكانت مراكز مثل المتمة
– فازوغلي – الروصيرص مرتبطة إداريًا بحكام السودان المعيّنين من القاهرة منذ
القرن التاسع عشر.
ثانيًا: كيف دخل الإقليم ضمن السيادة المصرية؟
1. خلفية الحكم المصري –
العثماني في السودان
في عام 1821، ضمّ محمد علي باشا منطقة السودان إلى مصر، وأصبحت الإدارة
المصرية تسيطر على إقليم فازوغلي والمناطق المجاورة، بما فيها أراضي بني شنقول
الحالية.
2. شراء الخديوي إسماعيل للإقليم (1868)
في سنة 1868، قام الخديوي إسماعيل باشا – ضمن مشروعه لبناء دولة مصرية
حديثة واسعة النفوذ – بعقد اتفاقات مباشرة مع زعماء قبائل بني شنقول لضم المنطقة
إلى الحكم المصري.
وقد تمت العملية بالشراء المباشر ودُفعت أثمان الأراضي كاملة، وتم إدخال
الإقليم إداريًا ضمن مديرية فازوغلي السودانية التابعة لمصر.
أطلق إسماعيل على جزء من المنطقة اسم "نهود الخديوي"، في إشارة
إلى ضمّها رسميًا.
ثالثًا: من مصر إلى إثيوبيا… اتفاقية 1902 التي غيّرت مصير الإقليم
1. الاحتلال البريطاني
وتغيير الخرائط
بعد الاحتلال البريطاني لمصر (1882)، أصبحت لندن صاحبة القرار في ملف
السودان والحدود.
وكانت إثيوبيا آنذاك تحت حكم الإمبراطور منليك الثاني، الذي كان يتمدد
غربًا ليبسط نفوذه على القبائل الحدودية.
2. اتفاقية أديس أبابا (1902)
في عام 1902 وُقِّعت اتفاقية بين:
الحكومة البريطانية نيابة عن مصر والسودان
الإمبراطور منليك الثاني ملك الحبشة (إثيوبيا آنذاك)
ونصّت الاتفاقية على نقطتين جوهريتين:
أولًا: التنازل عن بني شنقول لإثيوبيا
وافقت بريطانيا – دون الرجوع لإدارة مصر الخديوية – على منح الإقليم
لإثيوبيا مقابل اعتراف منليك بالحدود، مقابل امتناعه عن التدخل غرب النيل.
ثانيًا: شرط منع بناء أي سدود على النيل الأزرق
وتضمن البند الثالث من الاتفاقية نصًا واضحًا:
"يتعهد ملك
الحبشة بألا يُنشئ أو يسمح بإنشاء أي أعمال على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو
السوباط، يمكن أن تؤثر على تدفق المياه إلى مصر دون موافقة حكومة السودان."
وهذا البند هو جوهر الأزمة الحالية.
هل دفع الجانب المصري ثمن الإقليم كاملًا؟
نعم. كانت المدفوعات التي بدأها الخديوي إسماعيل مستمرة بسبب الاتفاقات
القبلية، وظلّت مصر تسدد التزامات مالية حتى منتصف القرن العشرين.
وتشير وثائق الأمم المتحدة إلى دفع آخر الأقساط في عهد الرئيس جمال عبد
الناصر، حين أُغلِق ملف التعويضات بين السودان وإثيوبيا.
رابعًا: بني شنقول… من إقليم تحت الإدارة المصرية إلى مصدر أزمة إقليمية
1. كيف استفادت إثيوبيا
من الإقليم؟
بعد 1902 توسع النفوذ الإثيوبي في الإقليم، لكن بقيت مسألة بناء السدود
محظورة قانونيًا بموجب الاتفاقية.
2. بناء سدّ النهضة
(2011 – 2025)
حين أعلنت إثيوبيا مشروع سدّ النهضة عام 2011، كان اختيار الموقع على أراضي
بني شنقول لسببين:
قربه الشديد من الحدود السودانية (20 كيلومترًا فقط).
وجود تضاريس مثالية لبناء سدّ خرساني ضخم.
لكن هذا الموقع تحديدًا هو الذي يخالف اتفاقية 1902 لأنها تمنع إثيوبيا من
إقامة أي إنشاءات مائية على النيل الأزرق دون موافقة مصر والسودان.
خامسًا: ما هي شرعية مصر القانونية اليوم؟
1. اتفاقية 1902 ملزمة
لإثيوبيا
وما زالت الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي يعتبرانها اتفاقية دولية سارية،
وسبق أن احتجّت مصر رسميًا بها في ملفات التفاوض.
2. سابقة توليد السدود
دون إخطار
بناء سدّ بهذا الحجم على أرضٍ كانت ذات يوم جزءًا من السيادة المصرية –
السودانية يجعل القضية ليست مائية فقط، بل حدودية أيضًا.
3. المطالبات الممكنة
قانونيًا
حق مصر في المطالبة بالالتزام الحرفي باتفاقية 1902.
حق السودان في إعادة النظر في حقوقه الحدودية.
حق مصر في الاحتجاج على أن موقع السد نفسه يقع في منطقة لها تاريخ قانوني
مختلف.
سادسًا: لماذا يتجنب العالم الحديث عن هذا التاريخ؟
هناك ثلاثة أسباب رئيسية:
الحساسية السياسية: إثيوبيا تعتبر الإقليم جزءًا من هويتها الحديثة.
المصالح الدولية: دول كبرى تدعم السد لأسباب اقتصادية وجيوسياسية.
ضعف التوثيق العربي: أغلب الدراسات التفصيلية موجودة في أرشيفات بريطانيا
وروسيا وإيطاليا.
لكن الوثائق المصرية – من بينها خرائط دار المحفوظات بالقلعة – تثبت بوضوح
أن المنطقة كانت نطاقًا حدوديًا مصريًا – سودانيًا حتى نهاية القرن التاسع عشر.
خاتمة: إقليم بني شنقول… أرضٌ لها ثمن وتاريخ، لكنها في قلب صراع جديد
إن قصة بني شنقول ليست مجرد حكاية عن شراء أرض أو تغيير حدود؛ بل هي قصة
دولةٍ كانت تمتلك السيادة على منابع نهرها، ثم فُرض عليها واقعٌ مختلف بسبب تحولات
سياسية دولية.
واليوم، وبينما يقف سدّ النهضة شامخًا على أرضٍ كانت يومًا تُعرف بـ«نهود
الخديوي»، تعود الأسئلة الكبرى:
هل يحق لمصر أن تطالب إلزام إثيوبيا باتفاقية 1902؟
وهل يمكن اعتبار بناء السد خرقًا واضحًا للنصوص القانونية القديمة؟
وهل تعود قضية الإقليم إلى الواجهة إذا تعنّت الجانب الإثيوبي أكثر؟
قصة بني شنقول إذن ليست فصلًا من الماضي فقط، بل جزء من مستقبل الأمن
المائي المصري، وملفٌّ سيظل حاضرًا في كل مفاوضات قادمة حول النيل الأزرق.
وهكذا يتبيَّنُ للناظر المتجرِّد من الهوى أنّ إقليمَ بَني شَنْقُول ليس
رقعةً مجهولةَ الجذور، ولا أرضًا وُلدت خارج سياق التاريخ، بل هو جزءٌ أصيلٌ من
الامتداد المصريّ القديم والحديث، نشأت صلته بمصر منذ العصور الفرعونية التي بلغت
حدود نفوذها تلك الربوع، ثم عاد الارتباطُ ليتوطَّد في القرن التاسع عشر حين اشترى
الخديوي إسماعيل الإقليم رسميًّا عام 1868 من زعماء القبائل، ودفع أثمانه كاملة،
وأدخله إداريًّا ضمن السودان الواقع آنذاك تحت السيادة المصرية، وأطلق عليه اسم
"نَهُود الخديوي" اعترافًا بتمام ملكيته وولايتها.
لقد رسخت الوثائق التاريخية والمراسلات الرسمية، إلى جانب الخرائط
المعتمدة، أنّ العلاقة بين مصر وبني شنقول لم تكن علاقة نفوذٍ عابر، بل سيادةٌ
قائمةٌ على البيع والشراء والضم والإدارة الفعلية؛ وكلُّ ذلك قبل عقودٍ طويلة من
أن تُحدِث القوى الاستعمارية تبديلاتٍ قسرية في الحدود، أفضت لاحقًا إلى وقوع
الإقليم تحت السيطرة الإثيوبية الحديثة.
ومن ثَمّ، فإنّ الحديث عن ملكية مصر لبني شنقول قديمًا ليس قولًا عاطفيًّا،
ولا خطابًا إنشائيًّا، بل حقيقةٌ موثَّقة تشهد عليها الوقائع، وتُقِرُّ بها سجلاتُ
التاريخ. ويبقى الإقليم شاهدًا على مرحلةٍ من التاريخ المصريّ توسَّعت فيها
الدولة، وأدارت حدودها الجنوبية بوعيٍ استراتيجي، يجعل من بَني شَنْقُول جزءًا
حيًّا من ذاكرتها الجغرافية والسياسية.
